الفصل السّادس: بناء الخبرة بواسطة التحقق من المحتوى الذي ينتجه المُسْتَخْدِمون
خلال المراحل المتأخرة من الحرب في ليبيا في 2011 تقدمتْ مجموعات الثوار من منطقة جبال نفوسة وبدأت بالسيطرة على مدن. كانت هناك تقارير متناقضة كثيرة عن المدن التي تم السيطرة عليها بمحاذاة سفح سلسلة الجبال. أحد تلك الادعاءات كانت عن بلدة تيجي الصغيرة الواقعة شمال الجبال. تم نشر فيديو على الإنترنت يظهر دبابة تسير عبر ما تم الادعاء بأنه وسط المدينة.
كنتُ آنذاك أتفحص المحتوى الذي ينتجه مستخدمون من مناطق الصراع في لبيبا. كان اهتمامي منصبا على فهم الوضع على الأرض، بما يتجاوز ما كانت تتناقله الصحافة. كانت هناك ادعاءات مستمرة وادعاءات مضادة عمّا يدور على الأرض. كنت مهتما بالإجابة على سؤال واحد فقط: كيف لنا أن نعرف إن كان التقرير دقيقا؟
كان هذا هو السبب والطريقة التي تعلمت بها ومنها استخدام محددات المواقع الجغرافية للتحقق من موقع تصوير مقاطع الفيديو. ساعدني هذا العمل في شحذ أدوات التحقيق من المعلومات المتاحة للجمهور التي أستخدمها الآن أنا وآخرون للتحقق من كل شيء؛ من الفساد الدولي إلى مناطق الحروب، وتحطم الطائرات.
لقد أظهر الفيديو في تيجي دبابة تسير في شارع عريض بجوار مسجد. تيجي مدينة صغيرة: كنت أظن أنه من السهل أن أجد ذلك الشارع بجوار المسجد.
حتى تلك النقطة، لم يدر في خلدي إمكانية استخدام خرائط الأقمار الاصطناعية للبحث عن علامات مميزة واضحة في مقاطع الفيديو للتأكد من المواقع التي صورّت فيها. إن صور خرائط الأقمار الاصطناعية في الأسفل تبين بوضوح شارعا رئيسيا واحدا فقط يقطع المدينة، وفي هذا الشارع هناك جامع واحد. قارنت وضع المئذنة والقبة وحائط مجاور مع الصور الموجودة في الفيديو، فكان واضحا التطابق التام.
بعد أن حددت الموضعَ المرجّحَ للكاميرا التي التقطت مقطع الفيديو في المدينة، أعدتُ مشاهدة الفيديو كاملا مقارنا التفاصيل الأخرى مع خريطة الأقمار الاصطناعية، مما أكد تطابق الموقع.
إن بناء الخبرة في تحديد المواقع الجغرافية استنادا إلى خرائط الأقمار الإصطناعية كان شيئا اكتسبته مع مرور الوقت، وذلك باستخدامي طرق وتقنيات جديدة مع كل مقطع فيديو جديد كنت أشاهده.
مطابقة الشوارع والطرق
بعد فيديو تيجي فحصت فيديو يقال إنه صور في مدينة لييبة أخرى وهي البريقة، يظهرُ مقاتلين ثوار يتجولون في الشوارع. في البداية، بدا لي أنه لا توجد في خارطة الأقمار الاصطناعية معالم كبيرة، كالمساجد. لكني لاحظتُ معلما واحدا كبيرا يظهر في الفيديو. وبينما كان الثوار يسيرون في الشوارع، كان من الممكن أن أرسم خريطة للطرق الواقعة في المسار الذي سلكوه، ومن ثم طابقتُ خط سيرهم مع ما كان واضحا في صور خريطة الأقمار الاصطناعية. تجدُ في ما يلي خريطة رسمتها بيدي للطرق حسب ما رأيتهم أثناء سيرهم في الفيديو.
قمتُ بمسحِ صور الأقمار الاصطناعية للمدينة بحثا عن نمط طرق مشابه، وسرعان ما وجدتُ نمطا مماثلا.
اصطياد الظلال
كلما أكثرتَ من عملية تحديد الأماكن الجغرافية بناء على صور الأقمار الاصطناعية geolocating based on satellite map imagery، ستبدأ في ملاحظة أشياء صغيرة أيضا لم تكن ملحوظة من قبل. على سبيل المثال، رغم صغر لوحات الإعلانات وإشارات المرور، إلا أن ما تلقيه من ظلال تشير في الواقع إلى وجودها. كما يمكن استخدام تلك الظلال في كشف معلومات عن الارتفاع النسبي للمباني وشكل تلك المباني.
يمكن أيضا استخدام تلك الظلال لتحديد في أي وقت من اليوم تم التقاط الصورة. بعد إسقاط الطائرة MH17 في أوكرانيا، تم نشر الصورة التالية والتي تظهر منصة إطلاق صواريخ بوك Buk في مدينة توريز Torez.
كان من الممكن تحديد مكان الكاميرا، وبعدها أصبح ممكنا تحديد اتجاه الظلال. استخدمتُ موقع Sun Calc الذي يسمح للمستخدمين حساب موقع الشمس خلال اليوم باستخدام واجهة Google Maps. فأصبح من الممكن بعدئذ الاستنتاج أن وقت التقاط الصورة كان 12:30 ظهرا بالتوقيت المحلي، وهو ما عزّزته لاحقا مقابلات مع مدنيين على الأرض، ومشاهدات نشرت على شبكات التواصل الاجتماعي لمنصات صواريخ تتجول في المدينة.
في حالة يوم 17 يوليو/ تموز 2014، وواقعة إسقاط الطائرة الماليزية، كان من الممكن فعل ذلك بتحليل عدد من مقاطع الفيديو والصور لمنصة الصواريخ بوك Buk. استطعتُ وآخرون أن ننتج خريطة لتحركات منصة الصواريخ في ذلك اليوم، بالإضافة إلى خط زمني لمشاهدات تلك المنصة.
بالجمع بين مصادر، وأدوات، وتقنيات مختلفة استطعنا أن نربط تلك النتف المستقلة من المعلومات لنأتي بحقائق مهمة عن الحادثة.
أحد العناصر المهمة لاستخدام المحتوى الذي ينتجه المُسْتَخْدِمون هو فهم كيف يتم إعطاء هذا المحتوى للآخرين. في حالة سوريا تقوم بعض من صفحات التواصل الاجتماعي المعارضة بدور المصادر الرئيسية للأخبار من مناطق معينة. هذا بالطبع يحد من زوايا النظر إلى الصراع في المناطق المختلفة، ولكنه يعني أيضا أنه من الممكن تجميع وتنظيم ومراجعة هذه الحسابات بشكل ممنهج من أجل الحصول على آخر المستجدات.
في حالة أوكرانيا، لا توجد قيود كثيرة على استخدام الإنترنت، لذا فإن هناك زخما في المعلومات التي يتم إعطاؤها للآخرين. وهذا يخلق تحديات جديدة في جمع المعلومات، ولكنه أيضا يعني أن هناك الكثير من المحتوى غير "المفلتر" الذي قد يحتوي على معلومات ثمينة مكنونة.
خلال بحث Bellingcat عن منصة صواريخ بوك المرتبطة بإسقاط الطائرة MH17، كان من الممكن العثور على عدة مقاطع فيديو لقافلة تسير عبر روسيا إلى الحدود الأوكرانية وتظهر منصة الصواريخ نفسها التي تم تصويرها وتسجيلها يوم 17 يوليو/ تموز داخل أوكرانيا.
كانت مقاطع الفيديو تلك موجودة على حسابات تواصل اجتماعي وعدة مواقع على الإنترنت، تعود جميع ملكيتها لأفراد مختلفين. تم الكشف عن هؤلاء أولا بواسطة تحديد الموقع الجغرافي لمقاطع الفيديو الأولية التي عثرنا عليها، ثم تم استخدام ذلك لتخمين الطريق التي يرجح أن تكون تلك المركبات قد سلكتها للخروج من كل موقع من المواقع التي تم تحديدها جغرافيا. بعدئذ تمكنا أن نستخدم كلمات مفتاحية على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة للوصول لأسماء المواقع الممتدة على طول الطريق الذي يحتمل أن تكون المركبة قد سلكته. بحثنا أيضا عن الكلمات المفتاحية التي يمكن أن تقترن بالمشاهدات كـ "قافلة" و"صاروخ"... إلخ
ومع أن ذلك استهلك وقتا كبيرا، إلا أنه سمح لنا ببناء مجموعة من المشاهدات من مصادر متعددة كان من الممكن في أحوال أخرى عدم الالتفات لها، وبالتأكيد ما كان ليتم تجميعها وربطها ببعضها البعض.
إن كانت هناك من نصيحة أخيرة أسديها، فهي: جرّب هذا العمل وهذا التوجه في أي تحقيق. ثمة أشياء مذهلة يمكن أن تظهر لك عندما تتعامل تعاملا ممنهجا مع المحتوى الذي ينتجه المُسْتَخْدِمون والمعلومات المتاحة للجمهور. سيمكنك ذلك من التعلم بسرعة. وحتى مجرد التحقق من موقع جغرافي تحقق منه قبلك شخص آخر، يمكن أن يعلمك الكثير عن مقارنة مقاطع الفيديو والصور بصور خرائط الأقمار الاصطناعية.